فصل: (باب ما يُفسِدُ الماء من النجاسة، وما لا يُفسِدُهُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: تغير رائحة الماء بمجاور]

وإن وقع في الماء دُهن طيب، أو عود، فتغير به ريح الماء، ففيه قولان:
أحدهما: وهو الأصح -: أنه لا يمنع الطهارة بالماء؛ لأن تغيره عن مجاورة، فهو كما لو تغير ريحه بجيفة بقربه.
والثاني: يمنع الطهارة به، كما لو طرح فيه زعفران فتغير به.
وإن وقع في الماء قطران فغير ريح الماء.. فقد قال الشافعي في "الأم" [1/6] (لا يجوز الوضوء به)، وقال بعده بأسطر: (إن وقع به قطران، أو بان، فتغير به ريح الماء، لم يمنع الوضوء به).
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال: (لا يجوز الوضوء به)، أراد: إذا اختلط بأجزاء الماء، وحيث قال: (يجوز)، أراد: إذا لم يختلط بالماء، وإنما تغير به عن مجاورة.
قال أبو علي الطبري: وقيل: إن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء، وضرب لا يختلط به.

.[فرع: حكم ما لا يختلط بالماء كالكافور]

وإن وقع في الماء قليل كافور، وهو مما لا يختلط بجميع أجزاء الماء، وإنما يختلط باليسير منه، فتغير به ريح الماء.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجوز الطهارة به؛ لأن تغيره عن مجاورة.
والثاني: لا تجوز، كما لو وقع فيه زعفران، فتغير به. وبالله التوفيق.

.[باب ما يُفسِدُ الماء من النجاسة، وما لا يُفسِدُهُ]

إذا وقعت في الماء نجاسة، فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، نجس الماء، سواء كان الماء قليلًا، أو كثيرًا.
والدليل عليه: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر في المدينة - فقيل: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وإنه يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه، أو ريحه». فنص على (الطعم، والريح)، وقسنا اللون عليهما؛ لأنه أدل على غلبة الماء منهما، وقد روي: «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه».
(والمحائض): خرق الحيض، و (ما ينجي الناس): الغائط، يقال: أنجى الرجل إذا تغوط.
فإن قيل: كيف يطرح ذلك في بئر يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قلنا: يحتمل أن البئر في متسفل من الأرض، فتكون هذه الأشياء بقربها، ثم يحملها السيل إليها، ويحتمل أن يكون طرحوا ذلك إليها قبل أن يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أن يكون طرحها المنافقون.
وإن تغير بعض الماء دون بعض.. فقد ذكر في "المهذب"، و"المقنع": أنه ينجس الجميع؛ لأنه ماء واحد، فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين: أراد إذا كان الماء الذي لم يتغير أقل من قلتين. فأما إذا كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. لم ينجس ما لم يتغير منه؛ لأنه قد يتغير موضع من البحر بالنجاسة، فكيف يحكم بنجاسة جميعه؟!
وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا فرق بين أن يكون ما لم يتغير أقل من قلتين، أو قلتين، أو أكثر، فإنه ينجس الجميع؛ لأنه قال: لأنه ماء واحد، وهذه العلة موجودة. وإن كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. فقد ذكر ابن الصباغ ما يدل على صحة ذلك، فقال: إذا كان هناك ماء راكد متغير بالنجاسة، وبجنبه قلتان تمران براكد غير متغير.. فقياس المذهب: أن كل جرية تنجس به؛ لأنه كالماء الواحد، فكان الكل نجسًا وإن كثر، ولأنه ماء واحد فلا يتبعض حكمه، فإذا انفصلتا عنه.. زال حكم النجاسة؛ لأنه قلتان غير متغير بالنجاسة، فجعل ابن الصباغ القلتين نجستين وإن كانتا غير متغيرتين، لاتصالهما بالماء المتغير بالنجاسة.
ومن قال بهذا: يمكنه أن ينفصل عما ذكروه في البحر بأن يقول: المتغير لا يستقيم فيه، فلا ينجس بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يطهره البحر.. فلا طهره الله». ولم يفرق بين أن يتغير بالنجاسة، أو لا يتغير؛ لأن التغير في جميعه لا يتصور، وفي بعضه لا يستقيم.

.[مسألة: النجاسة المعفو عنها]

وإن وقعت في الماء نجاسة يدركها الطرف، من بول، أو خمر، أو ميتة لها نفس سائلة ولم تغيره، فإن كان راكدًا.. نظرت:
فإن كان الماء أقل من قلتين.. نجس، وإن كان قلتين، أو أكثر.. لم ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة: إلى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، سواء كان قليلًا، أو كثيرًا. ذهب إليه من الصحابة: ابن عباس، وحذيفة، وأبو هريرة. وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وابن أبي ليلى، وجابر بن زيد، ومالك، والأوزاعي، وداود، والثوري، والنخعي، واختاره ابن المنذر، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور، لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه، أو ريحه»، ولم يفرق بين القليل والكثير.
وقال أبو حنيفة: (كل ما وصلت إليه النجاسة، أو غلب على الظن وصول النجاسة إليه.. حكم بنجاسته وإن لم يتغير، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، والطريق إلى معرفة وصولها إليه: إن كان الماء إذا حرك أحد جانبيه، تحرك الجانب الآخر، فإن النجاسة إذا حصلت بأحد جانبيه.. غلب على الظن أنها وصلت إلى الجانب الآخر، وإن كان لا يتحرك الجانب الآخر.. لم يغلب على الظن وصول النجاسة من أحد جانبيه إلى الآخر).
واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد»، فلم يفرق بين القليل والكثير، ولا بين المتغير وغير المتغير.
ودليلنا: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر.. لم يحمل الخبث» أي: لا يقبل حكمه ولا يلتزمه. فدل على أنه إذا كان أقل من قلتين.. حمل الخبث. فإن قيل: فلعله أراد بقوله: "لم يحمل الخبث"، أي: أنه يضعف عن حمله، كما يقال: فلان لا يحمل هذه الخشبة، أي: أنه يضعف عن حملها.. قلنا: الشيء إذا كان عينًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه ضعيف عن حمله، والخشبة عين. وإذا كان الشيء حكمًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه لا يقبل حكمه، ولا يلتزمه، كما قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]. فأراد: أنهم حملوا أحكامها، فلم يقبلوها، ولم يلتزموها، لا أنهم يضعفون عن حملها؛ لأن المراد به الحكم، وكذلك النجاسة هي حكم لا عين.
وأما الخبر الذي احتج به مالك: فيحمله على الماء الكثير، بدليل ما ذكرناه.
وأما الخبر الذي احتج به أبو حنيفة: فيحمله على الماء القليل، بدليل خبرنا، فاستعمل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأخبار الثلاثة، وأخذ مالك بواحد من الأخبار الثلاثة، وأسقط اثنين، وكذلك أبو حنيفة أخذ بواحد منها، وأسقط اثنين.
إذا ثبت هذا: فإن هجر - التي تنسب القلال إليها - موضع بقرب المدينة، كان ابتداء عمل القلال بها، فنسبت إليها، ثم عملت بعد بالمدينة.
و (القلة): حب يسع جرارا من الماء، وجمعها: قلال. قال الشاعر:
يمشون حول مكدم قد كدحت ** متنيه حمل حناتم وقلال.

و (الحناتم) - جمع حنتم - وهي: الجرة الكبيرة، ذات عروتين، وهو يصف الحمار.
واختلف أصحابنا في حد القلتين.
فمنهم من قال: هما خمسمائة منًا، وهو ألف رطل بالبغدادي.
وقال أبو عبد الله الزبيري: هما ثلاثمائة منًا، وهو ستمائة رطل بالبغدادي.
وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في الإبانة: ق \ 7].
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: هما خمسمائة رطل بالبغدادي، وهو المنصوص؛ لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئًا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والاحتياط أن تجعل قربتين ونصفًا).
قال الشافعي: (والقربة بالحجاز، تسعمائة رطل)، فصار ذلك خمسمائة رطل، وهل ذلك تحديد أو تقريب؟ فيه وجهان:
أحدهما: من أصحابنا من قال: هو تقريب، فإن نقص منه رطلان أو ثلاثة أو ما أشبه ذلك، لم يؤثر نقصانه؛ لأن الشيء قد يستعمل فيما دون النصف في العادة، ولهذا يقال في الشيئين وأكثر من نصف الثالث: ثلاثة إلا شيئًا.
والثاني: قال أبو إسحاق: هو تحديد، فإن نقص منه نصف رطل، وما أشبهه.. فينجس بوقوع النجاسة فيه؛ لأن الحكم قد يجب للاحتياط، واستيفاء الواجب، كما يجب أن يصوم جزءًا من الليل لاستيفاء النهار، وكما يجب غسل شيء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه.
إذا ثبت هذا: فنقول: إن داود قال: (إذا بال الإنسان في الماء الراكد، ولم يجز له أن يتوضأ منه وإن كان كثيرًا لم يتغير، ولا يحكم بنجاسته، فيجوز لغيره أن يتوضأ منه، وكذلك إذا تغوط الإنسان في الماء.. جاز له ولغيره الوضوء به إذا لم يتغير به). وهذا خطأ بين لا يحتاج إلى الاستدلال عليه، وإنما قال هذا لتركه القياس.

.[فرع: الشك في قدر القلتين]

قال الصيمري: وإن وقعت في الماء نجاسة ولم تغيره، وشك في الماء، هل هو قلتان، أو أقل.. حكم بنجاسته؛ لأن الأصل فيه القلة.
وإن وقعت في الماء الكثير نجاسة ولم تغيره، لكون صفة النجاسة موافقة لصفة الماء، قال القاضي حسين: يعتبر بالنجاسة التي تخالف صفتها صفة الماء، وقد استعبد ابن الصباغ ذلك في الطاهر المخالط للماء، وهو في النجاسة أبعد.
وإن كان الماء قلتين إلا كوزًا، فصب فيه كوزًا من ماء ورد، ثم وقعت فيه نجاسة.. نجس الماء وإن لم يتغير، وإن كمل القلتين بكوز من ماء تغير بالزعفران، ثم وقعت فيه نجاسة، لم ينجس الماء من غير تغيير.
والفرق بينهما: أن ماء الورد عرق، وماء الزعفران كان مطهرًا.
فإن صب على القلتين الناقصتين كوزًا من خمر، أو بولٍ.. حكم بنجاسة الماء.
وهكذا إن صب عليه ماء نجسًا ولم يبلغا قلتين.. حكم بنجاسة الماء. وإن صب القلتين الناقصتين، على البول، أو الخمر، أو على الماء النجس، فاستهلك ذلك في الماء.. حكم بطهارته؛ لأن النجاسة إذا وردت على الماء القليل، نجسته، وإذا ورد الماء على النجاسة فاستهلكها، طهرها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا».
فنهى عن إيراد اليد النجسة على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها.
وإن كان الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة لم تغيره، والذي فيه النجاسة متميز عن الذي لا نجاسة فيه، مثل أن يكون أحدهما كدرًا، والآخر صافيًا، حكم بطهارة الجميع؛ لأن الاعتبار بالكثرة لا بالمخالطة.

.[فرع: نجاسة ما لا يدركه الطرف]

وإن وقع في الماء القليل نجاسة لا يدركها الطرف، أو كان ذلك في الثوب، ففيه خمس طرق مشهورة:
أحدها: يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها.
والثانية: لا يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنها نجاسة متيقنة، فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف.
والثالثة: أن فيها قولين: أحدهما: يعفى عنها فيهما.
والثاني: لا يعفى عنها فيهما، ووجههما ما ذكرناه.
والرابعة: ينجس الماء ولا ينجس الثوب؛ لأن الثوب أخف حكمًا في النجاسة، بدليل أنه يعفى عن قليل الدم والقيح فيه، بخلاف الماء.
والخامسة: ينجس الثوب ولا ينجس الماء؛ لأن الماء يزيل النجاسة عن غيره، فدفع النجاسة عن نفسه، بخلاف الثوب.
وحكى الشاشي طريقة سادسة: عن أبي علي بن أبي هريرة -: أنه ينجس الثوب قولًا واحدًا، وفي الماء قولان.

.[فرع: ما لا نفس له سائلة إذا وقع في المائعات]

الحيوان الذي له نفس سائلة: هو الذي إذا ذبح سال دمه عن موضعه، كالدجاج، والحمام، وما أشبههما؛ لأن النفس هي الدم.
والحيوان الذي لا نفس له سائلة: هو الذي إذا ذبح لم يسل دمه عن موضعه، كالذباب والزنبور. وفي الحية والوزغ وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما: قال الشيخ أبو حامد: لهما نفس سائلة.
والثاني: قال أبو العباس بن القاص والصيمري: ليس لهما نفس سائلة.
وإذا مات ما لا نفس له سائلة، ووقع في ماء ولم يغيره، أو في طعام أو شراب.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: ينجس الحيوان نفسه قولًا واحدًا.
وهل ينجس ما وقع فيه من الماء القليل والطعام والشراب؟
فيه قولان: وقال القفال: القولان في الحيوان نفسه، هل ينجس بالموت؟
فإذا قلنا: لا ينجس ما وقع فيه؛ وهو قول عامة الفقهاء، قال أصحابنا: وهو الأصلح للناس.
فوجهه: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وقع الذباب في الطعام، فامقلوه، ثم انقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنما يقدم السم، ويؤخر الشفاء».
و(المقل): الغمس، وقد يكون الطعام حارا، فيموت بالمقل فيه، فلو كان ينجسه.. لما أمر بمقله.
وروى سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما طعام أو شراب وقعت فيه ذبابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله، وشربه، ووضوؤه» ولأنه لا يمكن الاحتراز منه، فلو لم يعف عنه، لم يؤكل الباقلاء المطبوخ، والجبن؛ لأنه لا ينفك من وقوع الذباب فيه.
وإذا قلنا: ينجس ما وقع فيه، وحكي ذلك عن ابن المنذر، ويحيى بن أبي كثير.. قال في "الإفصاح" و"التنبيه" وهو الأقيس.
فوجهه: أنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته، فأشبه ما له نفس سائلة.
فقولنا: (حيوان لا يؤكل بعد موته) احتراز من الحوت، والجراد.
وقولنا: (لا لحرمته) احتراز من الآدمي إذا مات، وقلنا: إنه طاهر.
وأما ابن المنذر فقال: لا أعلم أحدا قال: إنه ينجس ما وقع فيه غير الشافعي.
إذا ثبت هذا: فنقول: فإن كثر من ذلك ما غير الماء، فإن قلنا: إن الماء ينجس بوقوع ذلك فيه وإن لم يغير صفته.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا ينجس.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: ينجسه؛ لأنه ماء تغير بالنجاسة.
والثاني: لا ينجسه؛ لأن ما لا ينجس الماء القليل، إذا وقع فيه ولم يغيره.. لم ينجسه وإن غيره، كالسمك والجراد.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر، وكذلك إذا تغير الماء بالسمك والجراد.. كان طاهرًا غير مطهر. ذكره الصيدلاني.
هذا إذا كان الحيوان غير متولد في نفس الشيء. فأما إذا كان متولدا في نفس الشيء، كدود الخل، والجبن، ودواب الباقلاء، فإن مات فيما تولد فيه.. لم ينجسه قولا واحدا؛ لأنه لا ينفك منه، وإن نقل منه إلى غيره ومات فيه.. فهل ينجسه؟ على القولين في الذباب إذا وقع في ماء قليل، وما له نفس سائلة مما لا يعيش إلا في الماء كالسلحفاة إذا قلنا: لا يحل أكله، والضفدع إذا مات في ماء قليل.. فإنه ينجسه قولًا واحدًا.
وقال أبو حنيفة: (لا ينجسه، كالسمك).
دليلنا: أنه حيوان له نفس سائلة لا يحل أكله، فينجس الماء القليل بوقوع ميتته فيه، كحيوان البر.
قال الصيدلاني: ودود الميتة نجس العين؛ كولد الكلب، وأراد بذلك: الدود المتولد في نفس الميتة، أنه نجس العين لا يطهر بالغسل، كولد الكلب، وكذلك عند البقلة النابتة في العذرة وسائر النجاسات.

.[مسألة: تطهير الماء النجس]

إذا وقعت في الماء نجاسة، وحكم بنجاسته.. نظرت:
فإن كان الماء أكثر من قلتين وتغير بالنجاسة، وأراد تطهيره، طهر بأن يزول التغير بنفسه، بهبوب الريح، أو بطلوع الشمس، أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو ينبع فيه، فيزول التغير. أو بأن يؤخذ بعض الماء، فيزول التغير قبل أن ينقص عن قلتين؛ لأن النجاسة بالتغيير، وقد زال.
فإن طرح فيه شيئًا غير الماء، فزال التغير.. نظرت:
فإن تغير طعم الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له طعم، فغلب طعمه طعم النجاسة.
أو تغير لون الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له لون، فغلب لونه لون الماء. أو تغير ريح الماء، فطرح فيه ما له ريح، فغلب ريحه ريح الماء، لم يحكم بطهارة الماء؛ لأنه يجوز أن تكون صفة الماء المتغير بالنجاسة باقية، وإنما لم يطهر؛ لغلبة ما طرح فيه.
وإن طرح فيه تراب، فأزال تغير الماء، ففيه قولان:
أحدهما: لا يطهر - وهو اختيار المحاملي، وصاحب "المذهب" - لأنه زال تغيره بوارد عليه لا يزيل النجاسة، فأشبه ما إذا طرح فيه كافورًا أو مسكًا، فزالت رائحة النجاسة.
والثاني: يطهر - وهو اختيار القاضي أبي حامد، والشيخ أبي إسحاق - لأنه قد زال التغيير، فأشبه إذا زال بنفسه، أو بماء، ويخالف إذا طرح فيه الكافور والمسك؛ لأن لهما رائحة زكية، فربما غلبت رائحتها رائحة النجاسة.
وإن طرح فيه غير التراب من الجامدات التي ليس لها ريح، ولا طعم، ولا لون، ينحل في الماء، كالجص، والحجارة، فزال التغيير، فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يطهر بذلك قولًا واحدًا، بخلاف التراب؛ لأن التراب يوافق الماء في التطهير، بخلاف غيره من الجامدات. وقال سائر أصحابنا: فيه قولان، كالتراب.
وإن كان الماء قلتين فقط، وتغير بالنجاسة.. طهر بجميع ما ذكرناه، إلا بأخذ بعضه، فإنه لا يطهر؛ لأنه ينقص عن قلتين، وفيه نجاسة.
وإن كان الماء أقل من قلتين، وقعت فيه نجاسة، فحكم بنجاسة، وأراد تطهيره، فإن صب عليه ماء آخر، فبلغ قلتين، وهو غير متغير.. حكم بطهارته؛ لأنه لو وقعت فيه نجاسة، وهو قلتان، ولم تغيره.. لم يؤثر وقوعها فيه، فكذلك إذا بلغ هذا الحد، وهو غير متغير بالنجاسة.
وهكذا: لو كان هناك قلتان منفردتان في كل واحدة منهما نجاسة، فخلطتا، وهما غير متغيرتين، أو كانتا متغيرتين وهما منفردتان، فخلطتا وزال التغير.. حكم بطهارتهما.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم بطهاتهما؛ لأن كل واحدة منهما نجسة فلا تطهران بالاجتماع، كالمتولد بين الكلب والخنزير.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء قلتين.. لم يحمل خبثًا». وهذا قد بلغ قلتين.
فإذا فصلت إحدى القلتين عن الأخرى، فإذا كانت النجاسة مائعة.. كانتا طاهرتين. وإن كانت جامدة.. حكم بنجاسة ما حصلت فيه منهما بعد ذلك.
وإن كاثره بالماء، ولم يبلغ الجميع قلتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر؛ لأنه دون القلتين، وفيه نجاسة.
والثاني: يطهر - وهو الأصح - كالأرض النجسة إذا كوثرت بالماء.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر؛ لأن الغلبة للماء الذي أزيلت به النجاسة، وهو غير مطهر على الأصح.
وإن أراد الطهارة بالماء الذي هو أكثر من قلتين، وفيه نجاسة زال حكمها، فإن كانت النجاسة جامدة مثل: جلد الميتة ولحمها، وكان الماء راكدًا، فإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، أو أكثر.. جاز بلا خلاف على المذهب. وإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق، وابن القاص: لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إلى استعمال ما فيه نجاسة قائمة.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يجوز، وهو المذهب؛ لأن هذا الماء محكوم بطهارة جميعه، والمعنى الذي ذكراه موجود فيه.
وإن كان بينه وبين النجاسة قلتان، فإن كان الماء قلتين لا غير، وفيه نجاسة جامدة ولم تغيره.. ففيه وجهان:
الوجه الأول: قال أبو إسحاق: لا يجوز أن يستعمل شيئًا منه؛ لأن النجاسة إن كانت في وسط الماء؛ فلأنه يستعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين، وهذا لا يجوز على أصله في الأولى. وإن كانت النجاسة في طرف الماء؛ فلأنه ماء واحد، فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف منه نجسًا.. وجب أن يكون الذي غرفة نجسًا.
والوجه الثاني: أنه يجوز أن يستعمل من أي موضع شاء منه، حتى لو أصاب بيده عين النجاسة، كما لو لم يقع فيه نجاسة.. صح، وهو الأصح؛ لأنا قد حكمنا بطهارة هذا الماء، والماء الطاهر يجوز استعماله.
فعلى هذا: إذا أخذ منه بدلو أو إناء.. نظرت: فإن بقيت النجاسة في البئر.. فإن الماء الذي في الدلو طاهر؛ لأنه ينفصل عنه قبل أن يحكم بنجاسته، ويكون باطن الدلو طاهرًا، وظاهره نجسًا.
وإن خرجت النجاسة في الماء الذي في الدلو.. كان الماء الذي في الدلو نجسًا، وما بقي في البئر طاهرًا، ويكون باطن الدلو نجسًا، وظاهره طاهرًا.
فإن قطر مما في الدلو قطرة إلى الماء الباقي في البئر.. نجس أيضًا. فإن أراد تطهيره.. رد الماء الذي في الدلو إلى البئر، والأولى أن يخرج النجاسة من الدلو، ثم يرد الماء الذي في الدلو إلى الماء الذي في البئر، ثم يغترف، ليخرج من خلاف أبي إسحاق، وابن القاص.
وإن كان الماء قلتين، أو أكثر، وفيه نجاسة ذائبة لم تغيره.. جاز الاستعمال منه، وهل يجوز استعمال جميعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: من أصحابنا من قال: لا يجوز استعمال جميعه، بل يبقى منه قدر النجاسة؛ لأنه إذا لم يترك قدر النجاسة كان مستعملا للنجاسة بيقين.. فوجب ترك قدرها، كما لو حلف لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير ولم تتميز، فأكل الجميع إلا تمرة.. فإنه لا يحنث.
والثاني: من أصحابنا من قال: يجوز استعمال الجميع، وهو الصحيح؛ لأن كل ما جاز استعمال بعضه.. جاز استعمال جميعه، كما لو لم تقع فيه نجاسة؛ ولأنه إذا ترك قدر النجاسة، فإنه لا يجوز أن يكون المتروك هو عين النجاسة؛ لأن النجاسة قد اختلطت بالماء، ولم تتميز عنه، بخلاف التمرة، فإنه يجوز أن تكون هي المحلوف عليها.. فلا تلزمه الكفارة، ويجوز أن تكون المحلوف عليها قد أكلها، وهذه غيرها، فتجب عليه الكفارة، وإذا احتمل الأمرين احتمالًا واحدًا.. لم نوجب عليه الكفارة؛ لأن الأصل براءة ذمته منها. والله أعلم.